المادة    
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (وبسبب الكلام في مسألة الإيمان تنازع الناس: هل في اللغة أسماء شرعية نقلها الشارع فسماها في اللغة، أو أنها باقية في الشرع على ما كانت عليه في اللغة؟ لكن الشرع زاد في أحكامها لا في معنى الأسماء) إلى أن يقول: (وذهبت طائفة ثالثة إلى أن الشارع تصرف فيها) هذا كما تقدم، فتكون الحقائق لغوية وشرعية وعرفية، الأسماء ثلاثة أنواع: إما شرعية، وإما لغوية، وإما عرفية أي: في عرف الناس، فلدينا أحد الاحتمالات الثلاثة: إما أن الشرع نقلها عما كانت عليه في اللغة، أو أنه غيرها، أو أنه استعملها استعمالاً جديداً، يقول الشيخ: (والتحقيق أن الشارع لم ينقلها ولم يغيرها) فالذي اختاره شيخ الإسلام رحمه الله أن مثل هذه الأسماء أن الشارع لم ينقلها عن معناها اللغوي نقلاً كاملاً، ولم يغيرها فتصبح مجرد حقيقة شرعية أو لفظ شرعي (ولكن استعملها مقيدة لا مطلقة) يعني: هذه الأسماء كلها في اللغة مطلقة، ولكن يأتي الشرع فيقيدها، فمثلاً: الصلاة في اللغة مطلق الدعاء، فمن دعا بيديه وقال: يا رب فقد صلى، ومن صلَى صلاة كاملة فقد صلى في اللغة، ولذلك جاء حديث أبي رضي الله عنه عندما قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله: ( كم أجعل لك من صلاتي؟ ربعها، ثلثها، نصفها، ثلثيها، قال: إذاً أجعل لك صلاتي كلها )، يعني يكون ذكره كله الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويكتفي بها عن أي ذكر وأي دعاء، فإذا أراد أن يدعوا صلَى على النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذاً تكفي همك، ويغفر لك ذنبك ).
إذاً: الصلاة هنا بمعنى الدعاء في الشرع، وعندما نقول الصلاة في كتب الفقه فالمراد: دعاء مقيد، وهي: أقوال وأفعال معينة تبتدئ بالتكبير وتختتم بالتسليم على الهيئة الشرعية التي جاءت، فلم يغير أصل المعنى، وإنما قيد إطلاقه، هكذا يرى شيخ الإسلام رحمه الله.
مثال ثانٍ: فسق في اللغة بمعنى خرج، وعصى وتمرد، وهو في الشرع خروج مقيد، إذ الفاسق شرعاً هو الذي خرج عن أمر الله وعن طاعته، فارتكب محرماً، أو أتى كبيرة، أو ترك واجباً.
مثال ثالث: الحج في اللغة: القصد، يقال: حججت إلى فلان يعني: قصدته، ولكنه قيد في الشرع بأن يكون قصد البيت الحرام لأداء النسك المعروف في الشرع، فقيد إطلاقه ولم يتغير معناه، بل أضيفت إليه قيود جعلته قصداً خاصاً لا عاماً، وكذا الصوم في اللغة: مطلق الإمساك، وفي الشرع: إمساك عن أمور معلومة في وقت معلوم، وكذلك الزكاة في اللغة: مطلق النماء أو الخير أو البركة، وفي الشرع: هي ما قدره الشارع في المال.
نأتي إلى النفاق والجهاد والغيبة قد يقول البعض: هذه أسماء لم يكن لها عند العرب معنى، أي: أن هذا المعنى الشرعي أحدث، ومعناها في لغة العرب كان معنى آخر تماماً -كما تقدم- فكان العرب إذا قالوا: النافقاء يعنون به، بيت اليربوع الذي يأتي ثلاثة أبواب من هنا وهنا وهنا، فلا تدري من أين يخرج عليك، فكان الرجل إذا مشى يدخل من هنا ويخرج من هناك ويذهب، فالمنافق والعياذ بالله هذا حاله، يدخل في متاهات، فإن أردت أن تنظر إليه من هنا أو تمسك به من هنا خرج من هناك، فلا تقبض منه شيئاً، فهناك قدر مشترك بينهما في السلوك، وكذلك الجهاد هو القتال بنية التقرب إلى الله، فمتى عرف العرب ذلك؟ الجواب: أنهم لا يعرفون إلا السلب والنهب، وكل واحد يفخر بأنه سبى ونهب وساق قطيعاً من الإبل من عدو أو غيره، يقول:
وأحياناً على بكرٍ أخينا            إذا لم نجد إلا أخانا
أي: إذا لم تجد القبيلة إلا أختها هجمت عليها، فساقوا الإبل، وسبوا النساء، وقيدوا الأسرى، وهكذا حياتهم.
إذاً: كيف يعرف هؤلاء معنى الجهاد؟ إنهم لا يعرفونه كما هو حال العالم اليوم إلا من رحم الله، لقد وجد نهب ودماء وقتال، ولا نعرف شيئاً من هذه الأعمال يراد به وجه الله عز وجل، وكذلك الغيبة معناها الهجاء عند العرب، وهو نوع من أنواع الشعر لا بد منه، وكانوا يتفاخرون أن هذا الشاعر له في المديح كذا وكذا، وقد مدح هرم بن سنان وغيره، وله في الفخر كذا مع قبيلته، وله في الغزل والنسيب كذا عن عبلة و ليلى وفلانة وفلانة، وله في الهجاء كذا، إذ لا بد أن يهجوا أحد، أما مجالسهم فهذا يتحدث في هذا، فمتى عرفوا أنك إذا ذكرت أخاك بما يكره فقد فعلت كبيرة؟ إن كثيراً من المسلمين الآن لا يعرفون هذا، بل كثير من طلاب العلم يعرفون هذا الحديث، ولكنهم لا يقدرونه حق قدره، فكيف كان العرب في الجاهلية يعرفونه؟ ولهذا لم يشبهه الله تعالى في القرآن إلا بأكل لحم الأخ ميتاً، فهل يوجد في الدنيا من يأكل لحم أخيه ميتاً، ويرضى ذلك؟
الجواب: لا. وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا ) وهذا يبين حرمة الدماء والأموال، وبعض الناس ربما يقول: أنا لم أقتل ولم آخذ مالاً، ولو أخذ ريالاً حراماً استعاذ بالله، ولكنه يجلس للقيل والقال والغيبة، فيقال له: الورع أن تترك كل حرام، فالذي حرم الدم والقتل قد حرم النفس وحرم العرض معها، فلماذا تنال من عرض أخيك، وهذا مما تهاون فيه المسلمون، ليس فقط المسلمون، بل الدعاة وطلبة العلم أصبح مألوفاً أن يتكلم في هذا بعلم وبغير علم، بل ربما يستدعي الغيبة، فيجلس ويقول: ما رأيك في فلان فيستخرج الغيبة والعياذ بالله.
ولفظ (أخاك) في الحديث: لا يدخل فيه الكفار، ولا أهل البدع الذين خرجوا عن السنة والجماعة والعياذ بالله، ولا يدخل فيه العاصي الفاجر الذي جاهر الله تبارك وتعالى بمعصيته؛ لأنه معلن بفجوره، وذكرك أخاك بما يكره أن تقول: فلان فعل كذا، وهو لو كان جالساً لكره ذلك، ولو بلغه ذلك لكرهه ولم يرضاه ولم يقبله، فلم يجز الشرع الغيبة وهي الكلام في أخيك بما يكره إلا في مواضع مقيدة تقييداً شديداً بما لا بد منه، مثل: عموم الاستشارة والاستنصاح؛ كأن جاءت امرأة أو وليها وقال: ما رأيك في فلان، هل أزوجه ابنتي؟ فلا يقال هنا: الغيبة حرام؛ لأنه إن تورعت ولم تذكر الرجل بسوء فإنك تكون قد ظلمت الفتاة وخنت في النصيحة، لكن عليك أن تتأكد مما تقول ولا تقول مباشرة: لا خير فيه، بل تأكد فربما قد لا تحتاج أن تغتابه، فإذا تبين لك أنه خاطب جازم، وإنما بقي فقط المشاورة فتقول: أعلم فيه كذا وكذا، ولا تكتمها؛ لأنك ستظلم هؤلاء.
وهكذا ولو استنصحك رجل في شركة أو معاملة مع رجل كأن سألك: جاء رجل وقال: أعطني مائة ألف استثمرها، فإن كان صادقاً فانصحه بما تقتضيه حق النصيحة الذي هو من أعظم الحقوق، لأن ( الدين النصيحة )، ولهذا فإن ( النبي صلى الله عليه وسلم بايع جرير بن عبد الله البجلي على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، حتى بلغه أن فرساً له بيعت بثمان مائة درهم، وهو يرى أنه لا يستحق إلا أربعمائة، فذهب ليسأل عن الرجل حتى لقيه، فقال له: إنك اشتريت الفرس وإنه لا يساوي إلا أربعمائة درهم، فعجب الرجل وقال: والله إني لأرى أني لو دفعت فيه أكثر فلا بأس، فأنا راغب فيه، فقال: ولكني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم ).
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.